على مدار عام كامل كنت أعمل فيه مدربة للمعلمين فى المدارس الحكومية زرت فيها وزملائى ما يفوق الـ١٠٠ مدرسة و قابلنا أكثر من ٢٥٠٠ معلم على مستوى محافظات مصر كانت لى تجربتى الخاصة التى تعلمت منها دروسا و اكتشفت فيها ما كنت أجهل عن التعليم فى مصر فأصبحت الصورة أكثر وضوحا.

فالمعلم، الذى طالما توجهت أصابع الاتهام إليه كلما أخفقنا فى تحقيق هدف أو تعثرنا فى الوصول إلى غاية، لم يكن ناسياً و لا غافلاً عن دوره و رسالته و إنما منهكاً ينتظر الفرصة كى يعبر فيها عن نفسه و ينتزع مكانته.

المعلم حلقة وسيطة بين سياسات وإجراءات الإدارة العليا المتمثلة فى وزارة التربية و التعليم و بين المنتفع و المستفيد من الخدمة وهو ولى الأمر و الطالب و بالتالي يتلقى المعلم كل اللوم والعتاب على أى خطأ فى الممارسات للسياسات على الأرض و كذلك يتحمل توقعات أولياء الأمور الطموحة و احتياج المجتمع المتسارع فيقع بين المطرقة و السندان.

وكلت نفسى محامية اليوم عن المعلم و أقول مدافعة عنه (المتهم بريء حتى تثبت إدانته) ويحمل دفاعى حكما على كل معلم لا يتحمل مسئوليته و لا يحترم شرف مهنته و تثبت إدانته و لكن يبقى فى قفص الاتهام الآلاف من المعلمين الذين ساءت سمعتهم بهؤلاء بينما يمثل الشرفاء منهم السواد الأعظم.

أعود إلى رحلتى و أذكر أمين المكتبة الذى أنفق من ماله الخاص على تصميم مكتبة المدرسة ليجعلها تظهر بشكل متطور وكانت مبادرة فردية منه ، فما كان الدافع له لتلك المبادرة؟

و أتذكر معلمة اللغة العربية التى طافت بتلاميذ الصف الأول على كل أدوار مبنى المدرسة وقامت بتعريفهم بالمعلمين والإداريين الذين رحبوا بهم بالابتسامات والمداعبات، ولم تكتفى بذلك و إنما دعمت العلاقة الخاصة بتلاميذها و أشعرتهم بالحب على مدار العام و الإهتمام و الانتماء فزينوا فصلهم واهتموا به وارتبطوا به ارتباطاً وثيقاً حتى أن المعلمة قامت بالتوسط لهم عند إدارة المدرسة ليحتفظوا بفصلهم بعد الانتقال إلى الصف الثانى فكانوا الفصل الوحيد فى الدور الذى يجلس فيه تلاميذ الصف الثانى.

وأتذكر معلمة العلوم التى استجابت لدعوتنا فى استحداث طرق جديدة فى التعليم فاستخدمت الموبايل الخاص بها فى الحصة لتعرض عليه تفاعلات كيمائية وأفلام وثائقية علمية لتعميق المعرفة لديهم و تزيد من حماسهم إلى المادة فكانت نموذجاً يحتذى لمعلمات أخريات فى المدرسة.

لم يسع المقال للمزيد من الأمثلة و لكن يسعهم عالمنا ليضربوا لنا مثلاً على العمل المخلص بل و المتفانى.

أتذكر هؤلاء العظماء فى قاعة التدريب و هم يملؤهم التواضع ، و يتبادر إلى ذهني سؤالين:

الأول، هل يشعر كل من هؤلاء بقيمة ما يقوم به ، وهل يلقى تقديرا  أو دعماً؟

بالطبع لا!

 أذكر بعض المعلمين الذين أثاروا فى قلبي الشجون من شكوى العمل الإضافى لسد الاحتياج و ما يزيد الشجن أن تلك الأعمال تتطلب مجهود بدني كأن يعمل سائقاً أو فلاحاً أو قاضيا للحاجات بأجر ، كيف يجمع هذا المعلم بين عمله و متطلباته من الإبداع و الإجلال و بين كل تلك الأعمال التى لا تبقى إجلالاً  ولا تورث إبداعاً ؟ كيف يأتى فى الصباح يلعب و يبتكر نشاط لطلابه ؟ كيف يكتشف مواهبهم و ينميها بكلماته و حبه ؟ كيف يحافظ على إنسانيته فيدعم و يحتضن أولاده فى الفصل؟

من العبث أن يظل المعلم أسيراً لظروف القرون المنصرمة وأن نطالبه في نفس الوقت بأن يكون معلم القرن ٢١!!

السؤال الثانى،  هل سيستمر هؤلاء فى عطائهم ؟ ربما نعم .. ربما لا .. فكذلك دأب المبادرات الفردية ، تبدأ و لكن لا ضمان لاستمراريتها إلا بوجود حافز يدعم و يدفع إلى المزيد من العطاء.

كى يبقى أثر هؤلاء وغيرهم من النماذج التى تحفل بها مدارسنا الحكومية لابد من عمل تغيير جذرى حقيقي من خلال التعاون بين القطاع الخاص و المجتمع المدنى و القطاع الحكومى  للعمل على المحاور التالية:

  • الدعم المعنوي للمعلم و التركيز على دوره كأحد أركان العملية التعليمة و نقطة الإرتكاز.
  • الصورة العامة للمعلم و العمل على إظهار المعلم بصورة تليق به وبدوره الجليل في المجتمع.
  • التقدير المادى كأعلى فئة فى المجتمع على غرار المجتمعات المتقدمة فنوفر له بذلك  البيئة الآمنة للعمل و الإبداع.

و من جانبنا كأخصائيو تنمية مهنية فنحن نركز دائماً على تقدير المعلم و الاعتراف له بالفضل و الجميل لأننا نؤمن بأن منزلة المعلم من منزلة العلم تعلو.

حنان مجدي