أثناء دراستي في الصف الثاني الإعدادي كانت لدي معلمة لغة عربية  والوحيدة التي ما زلت أتذكر اسمها ووجها جيدا من باقي زملائها.

كنا نجلس داخل الفصل نتابع حصة كباقي الحصص اليومية، وكان هناك طالبًا يجلس في آخر الصف، شعره وملابسه غير منسقة وهيئته تدل أنه من أسرة “على قد حالها”، لا يحضر بالزي الرسمي للمدرسة ويخرج من الطابور أحيانًا بسبب عدم التزامه، يُسأل يوميًا من المدرس المشرف: 

- "فين يا بني القميص البيج والبنطلون البني ؟ مش لابس زي زمايلك ليه؟"

— "معلش يا أستاذ.. بكره هاجي لابس زيهم"

كان أول فصل دراسي لهذه المُعلمة، وكنا تقريبا في ثاني أسبوع. في تلك الحصة كنا نقرأ وكلاً منا يجلس منكفئًا على كتابه يترقب طلباً من المعلمة أن يقرأ الفقرة التالية.

تشير المعلمة إلى صاحبنا في آخر الصف، تطلب منه أن يستكمل قراءة، لكنه ينظر للأسفل ليجد أنه الوحيد الذي لا يملك كتاب، تسأله المعلمة مستفهمة: 

- "فين كتابك؟؟.." يرد: "لسه مستلمتش الكتب."

– "ليه؟"

صمت لمدة خمس ثوان مع نظرات تبحث عن مهرب تختبئ فيه أو شق في الأرض يبتلعه…

– "هستلم بكره"

– "وليه ماستملتش لحد دلوقتي؟" تقولها المعلمة وهي تقترب منه حتى تصبح بجانبه تمامًا، تنظر إليه ثم تستطرد قائلة:

– "طيب، كمل أنت يا فلان" مشيرة لطالب آخر يجلس في الصف الأول.

بعد يومين جاء الطالب ومعه الكتب والزي.

لم تكمل المعلمة عامها الدراسي ورحلت في الفصل الثاني، وبعدها علمنا أنها كانت قد ذهبت لمنزل هذا الطالب وتحدثت مع أسرته بشأن الكتب والزي. 

أن تكون إنسانًا لا يحتاج لخطة، لا يحتاج إلى تدريب، لا يحتاج أن تكون خريج كلية معينة ولديك شهادات من جامعات مرموقة.

بالطبع يوجد اختلاف بين أن يستقبل المعلم عامه الجديد بخطة واضحة ومفصلة وأهداف قابلة للتنفيذ، ورؤية وحماس وأشياء كثيرة لا يسع المجال لذكرها،  وبين أن لا يستقبله أصلاً.

لكن الواقع هو أنه لا يوجد معلم مهما كانت مهاراته وخبراته قادرًا على  أن يحقق العلامة الكاملة في سباق تلك الاستعدادات. 

لا يوجد معلم قادر على أن يغير جميع مستويات طلابه للأفضل بمقدار مائة بالمائة.

لا يوجد معلم قادر على أن يجعل العملية التعليمية ممتعة ومحفزة طوال الوقت.

وعلى العموم، لا يوجد معلم و لا إنسان قادر على أن يحقق جميع النجاحات والإنجازات دون إخفاقات أو فشل.

لكن ما يميز معلم عن معلم ( أو بالأحرى ما يميز إنسان عن إنسان) هو قدرته على تحقيق ما يمكن تحقيقه في ظل ظروفه وبيئته، رغم السقوط والتعثر، رغم التحديات التي واجهته، ومشاعر الإحباط التي مر بها. رغم كل شيء هو مازال يرى هدفه ويسعى وراءه.

والهدف المرجو منك كمعلم داخل فصلك وبين طلابك ليس فقط أن توصل المعلومة بأسلوب سهل ومبسط، أو أن يكون لديك خطة معدة مسبقًا بالدروس والمنهج على مدار السنة، أو أن ينجح كل طلابك  ويحصدون المراكز والجوائز.. الهدف قبل كل هذا هو أن تعاملهم كأناس.

كل عام وأنت بخير… كل عام وأنت إنسان.

عبد الحميد محمود

عبد الحميد محمود، أخصائي إدارة بيانات في علمني، درس علوم حاسب آلي ونظم معلومات، وشارك في  معسكرات للأطفال كمنسق وكميسر، ومعد للمحتوى التدريبي للميسرين وللأطفال. لو مش قاعد قدام الكمبيوتر بيحل مشكلة بيانات عويصة، هيبقى غالباً قاعد بيكتب بوستات عميقة أو مقالات أعمق لمنصات صحفية مختلفة على النت.