ما بين شارع الهرم والطريق الدائري بسياراته المسرعة غير المنتبهة تقبع منطقة الطالبية كغيرها من المناطق السكنية التي تطفلت على هذا الطريق وسكنت الأراضي المجاورة له دون سابق تخطيط أو تنظيم، ونالت في مقابله عدم اهتمام أو رعاية.

ووسط بيئة يبدو فيها التعليم ضربا من الرفاهية عندما يقترن بالسعي الحثيث لتوفير مقومات الحياة الأساسية، ووسط مستقبل أطفال لم يكتب له الولادة وأحلام لم يسمح لها أن ترى النور وحيوات تُدهس تحت وطأة سرعة الحياة والصراع من أجل البقاء على قيدها، حطّت فراشة علمني آملة في أن تنسج مستقبل مختلف لهؤلاء الأطفال، أن تمنح لطفولتهم حقها الطبيعي في الوجود، وتوفر لهم الحاضنة التي تكتسب فيها أحلامهم أجنحة تمكنها من الهروب من مطحنة الواقع حتى لا تسحقها والتحليق لإيجاد فرصة لتحقُقها.

لكن بما أن الرغبة في التغيير وحدها لا تعني أن تلك العملية ستستمر بسلاسة دون صعوبات، فالتحديات مستمرة ومتجددة بمرور الوقت.

كان هدف علمني من البداية توفير تعليم للأطفال بما يفترض أن يعنيه التعليم ويوفره وينميه في الطفل لا تعليم صوري من أجل الحصول على شهادات ، لذا كان القرار بإنشاء المدرسة المجتمعية لا لتعويض الأطفال عن التعليم في المدارس الحكومية التي لم تسنح لهم الفرص للالتحاق بها، لكن لتزويدهم بكل المهارات والرعاية التي لا يقدمها نظام التعليم الرسمي من الأساس.

ومدرسين علمني -أو كما نحب أن نطلق عليهم إنطلاقاً من رؤيتنا للتعليم “الميسرون”- هم في مقدمة من يعملون على تطبيق هذا التعليم المختلف، وأيضاً في مقدمة من يواجهون تحديات وصعوبات تطبيقه، فعوضاً عن الصعوبات الناتجة من البنية التحتية كعدم سهولة الحصول على مياه صالحة للشرب أو مواصلات أو خطوط تليفون، توجد التحديات المتعلقة بالأطفال كصعوبات التعلم عند بعضهم، وأعمار الأطفال المتفاوتة ممن فاتتهم فرصة الإلتحاق بالتعليم، والتي تتزايد مع السعي لتقديم تعليم أفضل، ففي الوقت الذي يركز فيه الميسرون على مهارات الطفل واكتشافه لنفسه وبحثه عن ذاته، تجد شكوى أولياء الأمور من عدم وجود ضرب، أو أنهم “مش بياخدوا واجب كتير”.

وبينما هم منشغلون بمواجهة تلك التحديات المتعلقة بالعملية التعليمية ذاتها، تظهر تحديات أخرى لها تأثيرها المباشر كوجود مشاكل صحية أو تربوية أو أزمات نفسية عند بعض الأطفال نتاج لسوء التغذية وسوء الظروف الصحية وغياب الوعي السلوكي والتربوي وانتشار الأمية بين أهالي المنطقة، ويزيد أثرها أثناء تفاعل الأطفال مع بعضهم لتنتج مشكلات وأزمات إضافية تتنافس إحداها مع الأخرى لتحافظ على إحساس الصدمة والمفاجأة لدى الميسّرين في كل مرة.

وفي الوقت الذي يبدو فيه مدى التأثير السلبي لهذه البيئة، إلا أنه يأتي في البال أنه قد يوجد كثير من هذه المشاكل بالمدارس العادية تساعد على إخفائها وعدم ملاحظتها، كثافة أعداد الطلبة والتركيز على الانتهاء من المنهج، وما كشفت لنا هذه المشاكل إلا عين الرعاية والاهتمام التي يحظى بها أطفال “علمني”، والمجهودات التي يقوم بها الميسرون، والجلسات التي تقوم بها “علمني” لتنشر الوعي الصحي والتربوي السليم بين أولياء الأمور وتمحو أميتهم.

وفي ظل كل هذه الصعوبات والتحديات، والحاجة الماسة لأولياء الأمور وأفراد المجتمع لأن يمدوا يد العون للمساعدة في مواجهتها والتغلب عليها، يجدون أن منهم من يعيقه جهله وثقافته أو سوء أحواله المادية عن توفير البيئة السليمة لنمو أبنائه، أو من جرّده الزمن والصراع من أجل توفير بديهيات الحياة من إحساسه بالمسؤولية تجاه أبنائه وواجباته نحوهم في أي جانب غير الأكل والشرب، ليصيروا هؤلاء الميسّرين هم ملجؤهم وأملهم الوحيد

ولايقع فقط على عاتق الميسرين تعويض هؤلاء الأطفال عما فاتهم من تعليم، فهم مسؤولون عن تعويضهم عما ينقصهم من رعاية وحنان قد لا يوفره لهم الأهل بسبب صعوبة العيش، فيجد الميسرون أنفسهم على أعتاب طريق ممهد بمشاعر العجز واليأس بين الحين والآخر ولكن سرعان ما يصادفهم أثناء السير على الطريق ما يبعث فيهم الأمل من جديد ، حين يرون أحد هذه البراعم من الأطفال وقد تفتحت لتكشف عن موهبة ما أو مهارة ما أو إستيعاب وفهم لجزئية معينة، حين يجدون مدرساً بالمدارس العادية وهو يمتدح مدرسة وحضانة علمني بنظام تعليمها وتعاملها مع الأطفال وقد حرص على أن يستمر أبنائه في الدراسة بهما بعدما رأى حب أولاده للمدرسة والدراسة وحرصهم على التجربة والتعلم في البيت حتى في عدم وجود واجبات منزلية، أو عندما يجدوا ولية أمر ( وقد منعها ضيق حالها وأمّيتها من تعليم ولدها تعليماً عادياً من مدرسة ودروس خصوصية) وهي ترى فيهم أملها الوحيد في أن يحظى طفلها بحقه في أن يعيش طفولته، وبفرصة في أن يتعلم وأن يكون له مستقبل ناجح لم يكن ليختلف كثيراً عن حاضر ومصير والديْه لولاهُم.

تواجه علمني بإدارتها وأعضائها الكثير من التحديات لتحقيق حلمها ورؤيتها بسبب عملها على حل قضية التعليم بمشاكلها وتعقيداتها، وأخرى بسبب كونها مؤسسة ناشئة وحالمة غير هادفة للربح ولكوْنها اختارت أن تساعد وتتعاون مع الهيئات الحكومية لحل هذه المشكلة على أن تغرد منفردة، إلا أنه يبقى “ميسّرات علمني” وهن الأبطال المجهولات ممن يتحملن العبء الأكبر ويواجهن التحديات الأصعب، وهن البطلات الحقيقيات محل فخرنا واعتزازنا جميعاً.

أحمد الكومى