كنت إبنه لأم وأب يعملان في مهنة التدريس، نشأت منذ نعومة أظافري على أحاديثهم اليومية عن التعليم ومشكلاته والصعوبات التي تواجه كل من يعمل في مجال التعليم أو يرتبط به بشكل ما، وفي إحدى مرات الحديث، سألت والدي  بفطرة الأطفال: “لماذا تكمل في هذا المجال بالرغم من كل الصعوبات التي تواجهها أنت وأمي” ؟ فأجابني بهدوئه المعتاد: “إذا قامت الساعه وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”.

لم أستوعب وأنا طفلة ما يعنيه أبي، لكن ظلت هذه الكلمات تتردد في أذني كلما رأيت مظاهر التعب على  والدي وهم مُصِران على استكمال مسيرتهما المهنية في التعليم بمراحلها المتعدده حتى بلغ كلاهما سن التقاعد .

وظللت أتسائل أنا “لماذا” ؟ ما ذلك الخيط الذي يربط كلاهما بهذه الأسوار ومن أين لهما بطاقة الصبر والتحمل لكل هذه المشكلات والعقبات؟

ما الذي كان يقصده والدي بالفسيلة؟ وأين تغرس؟

ثم بدأت أعي أن الأرض التي كان يغرس فيها والدي هي مدرسته والزرع الذي كان يستثمر فيه عمره وجهدة هو طلابه.

ومرت الأيام وكبرت وأنجبت بناتي، ومشكلات التعليم لا تزال على حالها، بل أراها تتصاعد سنة بعد سنة في توتر العلاقه بين الطلاب ومعلمينهم وفي فقدان المدرسة تدريجيا لدورها المؤثر في حياة التلاميذ وفي تحول العملية التعليمية من مساعدة الطالب على إتقان مهارات الحياة وفهمه لقدراته إلي التلقين والشكل الروتيني.

ماذا بعد؟ هل ستستمر المنظومة في التآكل؟ ما دورنا كأفراد ومؤسسات فيما يحدث ؟ كيف نعيد للأرض خصوبتها لتنبت من جديد ؟ من ناحيتي،  أخذت عهداً على نفسي على أن أغرس الفسيلة التي بيدي مهما ساء الوضع من حولي ومهما انطمس الأمل عند من يحيطون بي.

فانضممت لمؤسسة “علمني” التعليمية التي تمضي في خطوات ثابتة تجاه تحقيق حلمها في تبديل وجه التعليم في مصر.

ولكن كيف تسعي مؤسسة علمني إلي تحقيق هذا الحلم ليس فقط في مدرستها المجتمعية ولكن في المجتمع ككل؟ الإجابة تكمن في نشاطها الأكبر وهو تدريب “التطوير القائم على المدرسة” أو بلفظ آخر محبب إلى قلوبنا :تدريب “المدرسة الحلم”، وذلك عن طريق  أفراد فريق التنمية المهنية بعلمني والذي يقوم بتدريب المعلمين والمديرين والأخصائيين الاجتماعيين وجميع موظفي المدارس الحكومية التي تتعامل معها المؤسسة من خلال هذا البرنامج التدريبي، وهوليس مجرد تدريباً و نتائج نصل إليها و إنما ملامح نرسم تفاصيلها من خلال رحلة تدريبية نتعاون فيها مع كل فرد فى المدرسة نستعيد بها دور المدرسة كبيت ثان ومكان يوفر بيئة إنسانية داعمة لكل أفرادها تحقق لهم غايه اكتشاف وبناء قدراتهم وتحقيق ذواتهم بمساعدة دستور أخلاقي شارك  في وضعه الجميع ليتعامل به الجميع.

ولكن لم يكن هذا الحلم فقط هو ما جذبني إلى العمل بالمؤسسة، فأهم ما جذبني إلى علمني رؤيتها وهدفها للاستدامة في عملها التنموي وإعداد الطلاب للمستقبل، فالاستدامة هى المكون الرئيسى لأى برنامج تنموى ناجح وحلم أى عامل فى هذا المجال أن يجد مشروع يهدف إلى الوصول إلى ذلك المستوى و كان هذا حلم من أحلامى.

تحمل رحلة الوصول إلى “المدرسة الحلم” الكثير من الرسائل الموجهة إلى كل فرد فيها ،  تتلاقى الرسائل فى مواضع فتخلق مساحات من التعاون بين معلمى المواد والأخصائيين وبين معلمى الأنشطة ومعلمى المواد وبينهم جميعا وبعضهم البعض وتتفرق فى مواضع أخرى تبعاً لمسؤوليات كل منهم على حدته.

و تفصيل تلك الرسائل كالتالى:

١. رسالتنا الى مدير المدرسة

يقوم مدير المدرسة بدور المايسترو فى عرض موسيقى ، يضع الخطة ويقوم بتوزيع الأدوار ويذلل العقبات للعاملين بالمدرسة وهو المسؤول عن توفير المناخ العام ليحقق كل فرد فى المدرسة ذاته، وبتوجيهه المستمر وتحفيزه لأفراد فريقه يحقق أفضل النتائج فى المدرسة.

الرسالة السابقة لا يختلف عليها اثنين فى مجال الإدارة فهذا هو دور المدير بشكل عام و لكننا فى رحلتنا نقوم بتجديد الروح فى تلك المهام ونسلط الضوء على آثارها على المدير ذاته وعلى المعلمين على اختلاف تخصصاتهم وأدوارهم كما أننا نقوم بغرس مبدأ التفويض الذى بلا شك سيلقى عن عاتق المدير عبء كبير فى أعمال كتابية  فى مقابل إتاحة الوقت الأكبرإلى دوره الإنسانى و ترسيخ العلاقات داخل المدرسة، فهو يتلقى التدريبات اللازمة لتبني النهج الإنساني ومن خلال المتابعة والدعم المستمر يستطيع تزويد باقي الفريق الخاص بالمدرسة طرق التعامل مع الضغوط والأزمات .

٢. رسالتنا إلى المعلم

تحمل رسالتنا الى المعلم وجهين، المعرفة وما وراء المعرفة ، فإن الإعداد للمستقبل لا يعتمد فقط على المعرفة التى تحملها مناهجنا وإنما على قدرة المعلم على الربط بين تلك المعرفة والحياة.

فما الفائدة من علم لا يحل مشكلة ولا يدفع صاحبه إلى الأمام ولا يرفع القدرة على مواكبة العصر و التغييرات فى العالم؟

رسالتنا إلى المعلم تكمن فى تمكينه من أدوات دمج المهارات والقيم فى المنهج الدراسى علاوة على وضع الخيارات أمامه إما بأن يقوم بدور وظيفى مهنى تتحقق نتائجه بالنجاح فى الامتحان أو أن يمتد دوره فى حياة الطلاب بالسيرة الطيبة وبالتأثيرالذى يتعدى المعرفة العلمية إلى تأثير فى نظرته الى الحياة و تعامله معها.

فطبقاً لنموذج “المدرسة الحلم” يدرك المعلم تماماً جوانب النمو الشامل للطفل واحتياجات جوانب النمو الأربعه (المعرفية والجسدية والانفعالية والاجتماعية ) ويدرك أن التعلم فيها متمركز حول الطالب وأن دوره كمعلم هو في الحقيقة ميسر للعملية التعليمية وليس محاضراً.

يتدرب المعلم على استخدام أساليب التعلم النشط لجعل العملية التعليمية أكثرإمتاعا وتشويقاً كما يتدرب على أن يجيد دمج مهارات القرن الواحد والعشرين، كمهارات التفكير الإبداعي و التفكيرالناقد، في المواد الدراسية.

ونركز أيضاً من خلال التدريب على تشجيع المعلمين على تناقل خبراتهم فيما بينهم لتعميم الاستفادة ولتخفيف ضغط العمل والمجهود البدني والذهني الذي يعاني منه معظم المعلمين نتيجة لتحملهم عبء التلقين علي مدار اليوم الدراسي.

٣. رسالتنا إلى معلم الأنشطة

في مقابل الاهتمام بالمواد الدراسية وبسبب زيادة حجم المناهج التعليمية تحولت حصص النشاط إلى حصص تعليمية وليست تفاعليه وصارالطالب يدور في دائرة التعلم التلقيني وليس تنمية القدرات وتفريغ الطاقات، فيقضى الطلاب فى المدرسة معظم أوقات يومهم داخل الفصول وإذا سلمنا بأن هذه هى الحياة فمتى يحصل الطلاب على حقهم فى النشاط واللعب وتنمية مواهبهم الفنية والموسيقية ، وغيرها من مجالات الأنشطة المختلفة والتى توجد بالمدارس؟

رسالتنا إلى معلم النشاط هى تفعيل دوره داخل المدرسة وتوضيح أن النشاط فى حياة الطلاب ليس رفاهية وإنما هو ضرورة لأن الطلاب يتعلمون حيث يلعبون ولأن اللعب والنشاط هو النافذة التى منها نرى الطالب ويرى الطالب منها نفسه من الداخل وأحياناً تكون تلك النظرة هى مؤشرعلى دوره فى المستقبل.

يتلقى مدرسو الأنشطة ضمن تدريب “المدرسة الحلم” التدريبات المناسبة التي تساعدهم علي استخدام الألعاب والفنون في إرساء القيم وتنمية الذكاء الوجداني ويقوم التدريب بتوعيتهم  بالمشكلات وتدريبهم على التعاون مع الأخصائى الاجتماعي على تخطيط وعمل برامج عن طريق الألعاب والفنون لحل وعلاج العديد من المشكلات السلوكية بالفصل والمدرسة والمشاركة في ترسيخ الدستور الأخلاقي الذي تستحدثه المدرسة بمساعدة التدريب.

٤. رسالتنا إلى الأخصائى النفسى و الاجتماعى:

انحصر دور الأخصائي في الكثير من المدارس في بعض الأعمال الإدارية وتنظيم الأنشطة الطلابية وابتعد بسبب ذلك عن التفاعل  مع الطلاب والاهتمام بمشكلاتهم، يبذل المعلم فى فصولنا جهداً كبيراً فى التعامل مع سلوكيات الطلاب غير المرغوب فيها و تخرج تلك السلوكيات المعلم عن مساره الطبيعى و دوره المنوط به.

ورسالتنا الى الأخصائى تتلخص فى التعاون مع المعلم حتى يتمكن من أداء دوره وذلك من خلال رفع قدرة الأخصائى على قراءة الاحتياجات و اختيار الطريقة المثلى فى التدخل المناسب للحالات السلوكية.

كما نقوم بمتابعة الأخصائي الاجتماعى بعد تلقي التدريب لمساعدته على الاستمرار في التعاون مع المعلمين في تقديم الدعم النفسي للأطفال وإظهار أثر العقاب البدني والعنف على الطلاب والتعاون مع وحدة التدريب في المدرسة برفع الواقع وتجهيز تدريبات مناسبة للمعلمين والطلاب وأسرهم وباقي فريق العمل في المدرسة اذا تطلب الأمر وذلك لضمان الاستدامه لما يتلقاه أفراد المدرسة أثناء التدريبات المختلفة

٥. رسالتنا إلى الموجه:

يقول باولو كويلو فى روايته الشهيرة “ساحر الصحراء” أن “الكنز فى الرحلة”، وهو بالفعل ما لمسناه عندما قابلنا الموجهين.

فالنظام التعليمى فى مصر يحمل  مخزون من الخبرات العلمية والعملية تسمى موجهى الإدارة العامة والمتخصصة ،  والتي نكن لها كل التقدير والإجلال وعليه كان من الأهمية إتاحة الفرصة لتوصيل تلك الخبرة إلى المعلمين كل فى تخصصه و ذلك من خلال العديد من الأفكار مثل عمل برامج تبادل خبرات بينهم وبين المعلمين على مستوى المدارس المختلفة ومن خلال الاعتماد عليهم فى متابعة  الفصول والتطبيق العملى وعدم الاكتفاء بمتابعة كراسات التحضير.

لم يكن طريقنا نحن فريق التربية المهنية ممهدا أو سهلاً كما قد يتصور البعض، بل على العكس تماما .. مررنا كثيرا بأوقات غلب علينا فيها الإحباط واليأس ورأيت نفسي أحياناً أعيد ما كنت أسمعه من كلمات والدي عن المشكلات التي تواجههم في التعليم.

وكم من مرات دخلنا إلى قاعات التدريب ووجدنا في المتدربين بين من يقاوم إثر إحباطه من تكرار محاولات الإصلاح وبين من أشفق علينا من صعوبة الطريق وطوله، ولكن لم نكن نتجاوز معهم سوى القليل من الوقت ونجدهم جميعاً معنا على خطى تنفيذ المدرسة الحلم .. فالهدف واحد والآن جاءت الفرصة كي نعمل معا .

تحقيق “المدرسة الحلم”  على أرض الواقع هي الغرس الذي سيضعه فريق علمني  في أرض التعليم لينمو على مدار الأيام ويخرج لنا شجرة مثمرة بطلاب قادرين على فهم أنفسهم و على إدارة ذواتهم ولديهم مهارة التعامل مع جوانب الحياة  المختلفه.

رحلتنا طويلة.. احلامنا كبيرة.. لكن حلاوة ثمار الغرس تستحق البذل.

نيهال السيد

إلى جانب حبها للسفر والتأمل وعشقها  للشعر ولصوت الكمان، نيهال أخصائية تنمية مهنية انضمت لمؤسستنا في عام ٢٠١٦ للمشاركة في تحقيق حلم "علمني" لتطوير التعليم في مصر،قبل انضمامها للمؤسسة  حصلت نيهال على دبلومة في الإرشاد النفسي والأسري من جامعة عين شمس وتخرجت من مدرسة المشورة في ٢٠١٥ وهي الآن مستشارة نفسية وتربوية تقوم بتصميم البرامج  التربوية التي تساعد المربين على إنشاء علاقات صحية مع أبنائهم وتدربهم عليها كما تشارك في تصميم المناهج التربوية الخاصة بالمراهقين والأطفال والتي تساعد على تنمية شخصياتهم وتمكنهم وتزيد من ثقتهم بنفسهم ليكونوا قادرين على الإبداع والإنتاج والتعامل مع متطلبات الحياة المختلفة.