#أثر_الفراشة

التغيير يبدأ في احترام الأطفال

respecting-children
منى عبد المنعم

"انتي خايفة من ده؟! " قالها إبراهيم متعجباً بعدما هم بوضع إصبعه على الجزء المحرق من مسدس الشمع غير آبهاً لتحذيرات مدربته المستمرة له ولأقرانه لكي لا يتأذى أحداً.

"قعدت خمس دقايق كاملين ساكتة بحاول أستوعب اللي حصل"، قالت دعاء المدربة وهي تحاول وصف شعورها بعد هذا الحدث الغريب، فمن أين أتت هذه الفكرة لطفل يبلغ من العمر ثماني سنوات؟ وأي نوع من الحياة يعيشها حتى يرى أن هذا النوع من الألم ليس بشئ؟ 

"بولا" طفل آخر يبلغ من العمر تسع سنوات، لا يرى نفسه جديراً بالاهتمام ولا يعتقد أنه "ولد كويس". فهو لم يتقبل تشجيع مدربيه له، بينما رأى المدربون بداخله الكثير من الجمال الذي عملوا على إبرازه، وعن "بولا" يقول أحمد جلال- أحد المدربين بمعسكر بناء الرواد- أنه بالرغم من حبه للمشاكسة واصطناع المشاكل، إلا أن لديه ما يؤهله للنجاح في الحياة، فهو يستطيع أن يصبح شخصًا قائدًا ومؤثر في يوم ما إن أراد. أضاف أحمد " كل ما كنا نقوله كلمات تشجيع كان بيدوِّر وشه ويضحك على كلامنا، بس بعد ما قعدت واتكلمت معاه صارحني بإن المدرسة هي المكان الوحيد اللي بيقدر "يتشاقى" فيه ويتبسط، علشان بعد المدرسة لازم يشتغل."

القاسم المشترك بين إبراهيم وبولا هو أن كلاهما يعتمد على السلوك المتمرد ويستخدمه في مواجهة أقرانه، ولكن الجميع يقع تحت وطأة ثقافة تأديب لا ترحم، وهي ثقافة متأصلة في المجتمع تتبناها آلاف البيوت والمدارس المصرية.

تقول دعاء عن تصرفات الأطفال العنيفة "أنا شايفاها ناتجة عن البيئة اللي الأطفال بيتربوا فيها .. لو حد واقف في سكتهم مثلاً، بيقوموا زقّينه عشان يعدوا من غير ولا "آسف" ولا "بعد إذنك". في الأول كنت مش فاهمة ليه بيلجأوا للعنف في كل حاجة، وبعدين فهمت لما لقيت إن دي طريقة تعاملهم مع بعض، هما يا بيضربوا، يا بيشوطوا، يا بيدوا بعض لكميات، وده مش معناه إنهم متضايقين من بعض..هما مايعرفوش أسلوب تعامل غير ده."

ولعل أكثر ما يؤرقنا هو تقبل الأطفال للعنف، بل وإيمانهم بأنهم يستحقونه. سألتهم إن كان لديهم اقتراحات لعلاج مشكلة الضرب، ولكني حصلت على إجابة لم أكن أتوقعها: "الحل لإن محدش يضربنا هو إننا نبطل نعمل حاجات وحشة!" استكملت سؤالي مستفسرة "طيب انتوا شايفين إنكم المفروض تتضربوا لو عملتوا حاجة غلط؟" جاءتني الإجابة مباشرة خالية من التردد " أيوة!" 

ولكن ماذا عن معسكرنا الذي استمر ثلاثة أيام في أحد المدارس التي يرعاها البنك الأهلي المصري بمنطقة الوكالة، هل راق للأطفال؟ هل أعجبهم شيء ما بالأخص؟ "المدربين بيعاملونا حلو ومش بيضربونا" كان ما اتفق عليه معظمهم ضمنياً. تكلمت مع يوسف الطالب بالصف الثالث الابتدائي وحدثني عن مس ندى مدربته التي لم يستطع أن يخفي انبهاره بطريقتها في التعامل معه، "الميس سألتني هو انت مش هتاكل بسكوت، قلتلها يا مس مش بحب النوع ده فغيرتلي نوع البسكوت!" ما فعلته ميس ندى قد يبدو أمراً طبيعياً، ولكن بالنسبة ليوسف هو أمر مدهش ويستحق الإطراء.

في الحقيقة، نحن لا نستطيع أن نغير الثقافة التي نشأ فيها هؤلاء الأطفال، ولكن من خلال تدريبات المعلمين التي نقوم بها في نفس المدارس نستطيع أن نغير من طريقة التفكير السائدة، ويستطيع كل معلم أن يختار أن يكون إما جزء من المشكلة أو جزء من الحل. 

من ضمن أهداف معسكرات بناء الرواد أنها تساعد الأطفال على إدراك أنهم يستحقون كل احترام وتقدير، وتعلمهم أن للآخرون نفس الحق عليهم، فيتعلم الأطفال الإيمان بأنفسهم، يتأكدون من أنه باستطاعتهم أن يكونوا سفراء للتغيير عندما يتبنون القيم المثلى ويتعاملون باحتواء واحترام وتفاهم. "أعتقد إنه اللي بيخلي الأطفال دول يتحسنوا ويستجيبولنا في أنشطة المعسكر هو إننا بنديهم الاحترام وبنوفرلهم بيئة آمنة" تقول دعاء.

ثلاثة أيام، وهم مدة المعسكر، ليست مدة كافية لترك أثرمحدد، ولكن بحكم عملنا على الأرض، نرى بعض الثمار في آخر يوم من أيام المعسكر. نرى الأثر بشكل مؤقت، ولكننا نعرف أنه ثمة شيء قد تبدل وأن هناك شيء سيبقى، فالطفل لن يستطيع أن ينسى ما دخل في مساحة وعيه، لن يتمكن من نسيان ما شعر به، فقد اتسع إدراكه اليوم إثر تجربة تعليمية وإنسانية فريدة من نوعها ستفرض نفسها على ما يفعله غداً. إنها اللفتة البسيطة التي تؤثر في إدراكهم اليوم التي قد تقلب مستقبلهم رأس على عقب. إنه أثر الفراشة.

الأثرهو الطفلة "هنا" ذات الثماني سنوات التي كانت مستاءة من كل ما يحدث أمامها في الساعات الأولى من المعسكر، كانت تتنمر بأقرانها ولا تتركهم يستمتعوا في سلام، ولكن في اليوم الثاني من المعسكر، بدأنا نرى هنا مختلفة تساعد أقرانها وتحن عليهم. الأثر أيضاً هو أسماء التي كانت لا تتكلم أمام أقرانها من دون أن ترتعش، ثم تكلمت في آخر يوم للمعسكر لتقدم مشروع مجموعتها أمام لجنة التحكيم وقد تخلصت من الكثير من الخوف. الأثر يتمثل أيضاً في عمر الذي أطلق على تجربته في المعسكر " أحلى تلات أيام في حياتي"، والأثر أخيراً هو الطفلان الذان أخذا أدوات وخامات خاصة بأنشطة المعسكر ثم أعادوها في نهاية المعسكر من أنفسهم واعتذرا دون أن يطلب أحداً منهما ذلك.

فما الذي جعل هنا تتوقف عن شتم الجميع وتبدأ في المشاركة بينما تعلو الابتسامة وجهها؟ ولماذا قرر الطفلان إعادة ما أخذاه على الرغم من أن أحداً لم يلاحظ؟ نرى أنه الاهتمام الصادق لاحتواء هؤلاء الأطفال وإعطائهم ما يحتاجونه والسماح لهم بأن يكونوا أنفسهم دون توقع أي نتائج. إنه الإيمان بأن احتواء الطفل هو هدف قائم لذاته واليقين أن هناك شيء خير سيحدث من وراء ذلك.

ولكن معسكر واحد لن يكفي، فهو عمل مستمر، وهو مؤشر لنا عن ماهية التدخلات التي يحتاجها العاملين بالمدارس من معلمين ومديرين ومشرفين وأخصائيين اجتماعيين ونفسيين، وكما قال أحمد جمالأحد المدربين الذين احتكوا بالأطفال ورأوا الأثر " اللي احنا بنعمله مش هو الحل ولكنه جزء كبير من الحل."

منى عبد المنعم
اشترك في النشرة الإخبارية
Newsletter