يعتبر الكثير من الآباء أبنائهم ممتلكات خاصة بهم، بمعنى أنه لابد أن تدور، بشكل أو بآخر، تجربة كل ابن أو ابنة في فلك أهله. وكما يملك الآباء أبنائهم، يتملك الأبناء آبائهم، فلا يتصوروا أن يكون للأم أو للأب حياة أوسع من تلك التي يعيشوها من أجلهم، وبالتالي يتوقعون دائماً أن يكونوا الأولوية الأولى والأخيرة، بل الأولوية الوحيدة لآبائهم.

ويمكن هنا أن نقول أن لا ذنب للأبناء في ذلك التصور، فالأهل هم من قدموا تلك الصورة بدايةً! فبمجرد أن يأتون بهم إلى الحياة، يعقد الكثير منهم العزم على أن يهبوا حياتهم لأبنائهم، يختزلون حياتهم فيهم، يدوروا في فلكهم، وهنا تنتهي تجربة الأب أو الأم كإنسان وتنتهي رحلتهم في الحياة.

ولكن، لماذا يصعب على كثير من الآباء في البداية أن يتقبلوا أن يكون لأبنائهم تجربتهم الخاصة في الحياة؟ وإذا حاولوا تقبلها يكون ذلك على مضض؟

قد يكون بسبب سيطرة المخاوف والأوهام عليهم وقد يكون تعلقاً زائداً، ولكن يبقى السؤال، ما هو السبب وراء ذلك كله؟ 

في كثير من الأحيان يكون السبب – مع الأسف – ضيق تجربة الأهل في الحياة، فتضيق الرؤية ويصعب تصور سوى مسار واحد فقط، و عادة ما يكون هذا المسار مرتبط بمفاهيم محددة تبعد بنا عن أن نجرب وأن نعرف أهمية الفشل.

يؤدي ضيق التجربة إلى الخوف من فشل الأبناء، والخوف من الفشل كمربي، والخوف من الفشل أمام المجتمع ومن رأي الناس في تربيتي لأبنائي، أو الخوف من رأي المجتمع في أبنائي أنفسهم بما أنهم “امتداد” لي، والخوف من رأي أبنائي فيّ..إلخ. فكثير من الآباء يتركون مشاعر الخوف تسيطر على رحلة حياتهم، وبالطبع، يدور الأبناء مع الأهل في فلك المخاوف دائماً.

ولكن تجربة الإنسان في الحياة لا تعد بالسنين، فليس كلما كبر الأب أو الأم في السن كلما زادت خبرته، ولا يعني الكبر في السن أن الشخص لديه تجربة مكتملة يعتد بها وتستحق التعميم مثلاً. يمكن أن أكبر في السن ولكني لم أختبر و لم أعش تجربة و رحلة حياة حقيقية. ويمكن أن يكون لدي تجربة في الحياة ولكن لم أتعلم منها شيئاً. ويمكن أن يكون كان لدي تجربة وتعلمت منها، و لكن لا أريد أن أعكس سوى تلك التجربة على أبنائي، فأقبل ما يمثل أو يشبه تجربتي و أرفض ما يخالفها.

إن وجدت نفسك بلا تجربة حياة حقيقية، أرجو ألا تعتبر أبناؤك هم فقط تجربتك. بل اوجد وعش تجربتك، التي هم جزء كبير و مهم منها بالتأكيد.

هل معنى كلامنا عن التجربة في الحياة ينفي مسئولية الأهل عن الأبناء؟ بالطبع لا! بل بالعكس. من المفاهيم الخاطئة التي آن تصحيحها هي “بدون شك أنا أكثر من يحب أبنائي .. فأنا أكثر من يعرف مصلحتهم ويستطيع تربيتهم”. لكن ما علاقة الحب بالقدرة على التربية السوية؟ التربية علم.

بالطبع تربية الأبناء ليست حقل تجارب، ولكن من الطبيعي أيضاً أن نخطئ مع أبنائنا، فنحن لسنا آلات، ومهما تعلمنا سنظل نرتكب الأخطاء. إنما هل نتعلم حقاً من أجل أبناؤنا؟ و تُرى هل نقبل أن نخطئ؟ وماذا نفعل حينها؟ لو أخطأنا كآباء في مسار تربوي أو فكرة أو تصرف مع أبنائنا، هل نعتذر؟

لو أنا وأبنائي مدركون أن الحياة واسعة بحق، ستكون وطأة الخطأ أقل بكثير، وسيكون الاعتذار له معنى، وستكون التجربة شيء طبيعي، وستكون الحياة رحلة.

تُرى:

هل نستطيع أن نقبل أبنائنا، بتجربتهم المختلفة عننا، أو المشابهة لنا؟

هل يمكن أن نعلم أبنائنا ونسعد باختيارهم الحر؟

هل يمكن أن نمارس مهارة التفكر ونعلمها لأولادنا؟

هل كآباء نستطيع أن نتقبل وجودنا فقط كداعم وموجه ومعلم ومربي وليس كمتحكم؟

هل نستطيع أن نعطي حب من غير حدود مع طمأنة أولادنا أننا سنكون أول من يقف بجانبهم إن احتاجوا لنا؟

هل يمكن أن نتقبل أن الحياة واسعة وأنه من الطبيعي أن نسلك مسارات ونرجع عنها؟ أو نتخذ أكثر من مسار في نفس الوقت؟

هل يتقبل الأبناء أن يكون أهلهم أصحاب حياة وتجربة؟ 

فيجدر بالأهل أن يتنازلوا عن “الصورة المثالية” لأنفسهم ولأبنائهم ويتبنوا فكرة أنهم أناس لهم أحلامهم، واحتياجاتهم وأنهم يصيبون ويخطئون، والصورة المثالية في الأساس ليست ذات معنى، و هي لا تؤهل الطفل للواقع وللحياة الحقيقية و لا للتجربة.

ولكن إلى ماذا يستند الأهل في تربية أبنائهم لكي يرونهم بأفضل حال إن لم تكن “الصورة المثالية” هي التي يستندون إليها؟

من أفضل ما يستطيعون فعله هو اتباع نظرية من أهم النظريات في مجال التعلم نظرية” التعلم بالتجربة” لديفيد كولب، Experiential Learning by David Kolb وهي عملية التعلم من خلال التجربة، و تُعَرًّف بالأخص بالتعلم من خلال التفكر فيما نفعل.

وسيأتي شرح هذه النظرية وكيفية تطويعها في التربية في مقال لاحق.

نرمين الكمَّار

نرمين أحمد الكمار: حاصلة على بكالوريوس الهندسة المعمارية. أثناء دراستها بكلية الهندسة، وجدت أنه ليس المجال الذي تريد دراسته أو العمل به، مما أعطاها أول استبصار لأن التعليم، خاصة التعليم الأساسي لا يساعد على معرفة ما نريد تحقيقه في حياتنا، ما نستطيع عمله، وما نفتقر إليه و نريد تعلمه. عملت نرمين بمؤسسة علمني لمدة خمس سنوات في تطوير المناهج كما عملت كميسرة، ومشرفة تعليمية، وباحثة، ومديرة لمشروعات تطوير وتصميم مناهج متعددة. تستكمل نرمين الآن مسيرتها في تطوير مناهج التعليم المجتمعي بمدارس من أحياها المجتمعية، وهي في رحلة مستمرة من الدراسة؛ دراسة التربية و البحث من خلال مسارات متعددة، ودورات مختلفة، وورش عمل، وقراءات، ودبلومة في تربية الشخصية، و تخصص في طرق البحث بالعلوم الاجتماعية، وهي مؤمنةً بأن التربية والتعلم هما رحلة الحياة نفسها؛ فالتعليم ليس-في ذاته- هدف ينتهي ، والتعلم، والاكتشاف، والاستكشاف والتطوير لا ينتهوا أبداً.