سأبدأ مقالي بتعقيب على ردود الفعل لما تم طرحه في المقال السابق حيث تكلمت عن انتشار ظاهرة تملك الآباء للأبناء والعكس، وعن عبثية توقع الآباء أن يحذو الأبناء حذوهم وتوقع الأبناء من جانبهم أن يكونوا الشغل الشاغل لآبائهم دائماً وأبداً.

فبالرغم من محاولة إنصاف الأهل من تحكم الأبناء بحياتهم، ومحاولة توضيح أننا ذوات مستقلة كُتبَ عليها أن تنطلق في وسع الحياة وتتعلم وتجرب وتعيش تجربتها الخاصة، إلا أن ردود الأفعال أظهرت الكثير من الخوف والذي لم أغفل التطرق إليه أيضاً في المقال السابق.

والخوف هنا شعور طبيعي ومفهوم تماماً؛ الخوف على الماضي والحاضر والمستقبل. أتخيل أن يكون أول ما يتبادر إلى الذهن هو “كيف يمكن أن تكون قيمة حياتي ليست في أبنائي؟! وإن كان هذا صحيحاً فلِمَ أفنيتها من أجل هذا المفهوم؟ وماذا عليّ أن أفعل الآن؟ هو شعور بالفعل مخيف، يصيبنا بهاجس أن كل شيء سيتسرب من بين أيدينا.

قام بعض القراء بذكر آيات الله والأحاديث التي تتحدث عن بر الوالدين وما إلى ذلك برغم عدم إشارة المقال نهائياً لمفهوم البر أو ربط عدم ممارسته باستقلالية الأبناء بحيواتهم، فليس معنى أن يسلك الابن طريقاً غير الذي رسمه أباه أو أمه أنه ابن عاق، ولهذا وجب التساؤل: ما هو البر والإحسان؟ وما معنى مفهوم رضا الأهل؟ وكيف يجب أن يكون؟

ليس هذا المقال محط إجابة لهذه الأسئلة، وإنما الهدف من سردها هو أن نسأل أنفسنا أسئلة أكبر وأهم وأن نصحح مفاهيمنا ونفكر تفكير نقدي فيما اعتدنا فعله، فلنسأل أنفسنا مِن أين ومن مَن نتلقى العلم؟ وهل نحن فعلاً نسعى إلى فهم حقيقي للمفاهيم والمصطلحات التي نطلقها؟ هل نسعى إلى تكوين معرفة حقيقية؟

لو فتحنا باب التعلم بالتجربة لن يكون كذلك. لقد أتينا لهذا العالم لنعيش ونستكشف وسع هذه الحياة وليس من المنطقي أن نكون مطالبون بعيش حيوات متطابقة.

إذاً، ما هو "التعلم بالتجربة"؟ وكيف نمتثل لقواعده كمربيين للنشأ حتى لا نقع في خطأ افتراض أن تجربتنا هي الأمثل وهي التي ينبغي أن يتبعها ابني أو ابنتي لأنهم امتداد لي؟

"التعلم بالتجربة" لديفيد كولب – Experiential Learning by David Kolb

في أبسط صوره، التعلم بالتجربة يعني التعلم من التجربة أو التعلم عن طريق التطبيق أو الفعل. التربية بالتجربة تضع المتعلم في تجربة منذ البداية، ثم تشجعه على التفكر فيها وذلك لتنمية مهارات جديدة لديه، أو سلوكيات جديدة، أو طرق تفكير جديدة.

منهجية التعلم بالتجربة لا تتعامل مع كل مادة أو موضوع كشيء منفصل ومعزول عن باقي المواد أو باقي الموضوعات. التعلم بالتجربة يخلق مساحة للتعلم كما في الواقع والمتعلمون يلعبون دوراً هاماً في تقييم تعلمهم، واختيار متعلم لحل مشكلة ما سيختلف عن اختيار متعلم آخر، وما يأخذه متعلم من خبرة تعرض لها سيختلف عما توصل له باقي المتعلمين.

كيف يختلف التعلم بالتجربة عن التعلم التقليدي التابع لمؤسسات تعليمية أو مناهج معينة؟

هناك عدة خصائص للتعلم التجريبي ومنها:

غياب الأحكام المفرطة:

لابد أن تكون بيئة التعلم آمنة وخالية من الأحكام، ليستطيع المتعلم العمل بطريقته الخاصة واكتشاف ذاته.

اتخاذ مساعي هادفة:

لأنه يتعلم تعلماً ذاتياً، لابد أن يكون هناك معنى وهدف لما يتعلمه المتعلم وعليه أن يسلك طرقاً للتعلم قريبة من شخصه.

تشجيع الرؤية الكاملة:

لابد أن يجد المتعلم علاقة بين ما يتعلمه والعالم الحقيقي، ولابد أن تساعده تجربته على معرفة الروابط في الأنظمة المعقدة، وإيجاد الطرق للعمل من خلالها.

التفكر:

لابد أن يتفكر المتعلم فيما يتعلمه، ويحول الشيء النظري إلى شيء حي ويكتسب المعرفة بشكل تفاعلي.

الاستثمار العاطفي/الوجداني:

لابد أن يختار المتعلم ما يضرب على أوتاره وما يضيئه من الداخل ولا يركز فقط على المطلوب منه.

وحسب الدراسات، يساعد الخروج من مساحات الراحة comfort zones على الازدهار والدخول في آفاق جديدة، ويتطلب ذلك بالطبع أن يكون الإنسان مسئول عن أفعاله ومتحمل لتبعاتها.

فما هو دور المربي في التعلم بالتجربة؟

موجه، مشجع، مصدر للموارد، وداعم

عندما نفكر في دورنا، سيساعدنا أن نسأل هذه الأسئلة المهمة:

  1. من هو صاحب التجربة؟
  2. ما هو معيار النجاح الذي نستخدمه ومن يحدده؟
  3. ما هو الهدف مما نفعله في التعلم؟
  4. ما الذي بذلته لضمان نتائج التعلم؟

تقع معظم المسئولية على المتعلم أثناء تعلمه من خلال تجربته، ولكن هناك أيضاً طرق للمساعدة في التفكر والتجربة حسب بعض الباحثين، ومنها:

تحفيز المتعلم على التفكر والتساؤل:

حفز المتعلم على التفكر فيما يتعلمه من خلال تجربته وأن يتساءل حول ما يسمعه ويتعرض له. الأسئلة المفتوحة، الأسئلة الإيحائية، الأسئلة المصاغة كمشكلة، كلها يمكن اعتبارها طرق فعالة لتشجيع التفكر.

مواجهة المتعلم بمفاهيمه الخاطئة:

تختلف المواجهة عن “التصحيح”، فسيساعدهم إذا تابعنا مفاهيمهم الخاطئة حتى النهاية وناقشناهم فيها بدلاً من أن نقوم بتصحيحها على الفور.

حث المتعلم على الشرح والتطبيق:

نطلب منهم شرح ما فهموه وأن يطبقوه عملياً وفي سياقات مختلفة، سيساعدهم ذلك ويساعدنا في تحديد إذا كانوا تمكنوا من مهارات التفكر والنقد، أم مازالوا على الطريق. إذا علم المتعلم أن عليه أن يشرح ويوضح ما تعلمه، سيتبنى منهجاً عميقاً في التعلم.

عندما يحصل المتعلم على فرصته لخوض التجربة، ويتلقى المساعدة في اكتساب المعرفة والمهارات اللازمة لها، يتراجع المربي خطوة للوراء ويتحول دوره إلى مصدر للموارد، ومشجع، وميسر.

مصدر:

المربي هو مصدر لقراءات وأفلام وبرامج، ومتخصصين، إلخ. هو مصدر لموارد تستفز التعلم والتجربة.

مشجع:

ولأن التعلم بالتجربة دائماً ما يدفع المتعلم للخروج خارج مساحة راحته، لابد أن يساعده المربي في بناء الثقة والراحة أثناء الرحلة. دائماً ما يحتاج المتعلم من يشير إلى أن معاناته وتخبطاته جزء هام للنمو والتطور. المربي يرشد المتعلم لرؤية الصعوبات والمشاكل في ضوء إيجابي، وهو يؤمن بالمتعلم، ويتحمس معه ويحمسه أثناء الرحلة.

ميسر:

أثناء رحلة التجربة والتعلم، لابد أن يخلق المربي ويدعم ويُفَعِّل البيئة الآمنة، حيث يشعر المتعلم بقيمته، والثقة به، واحترامه.

وفي النهاية، لابد أن يشعر المتعلم بقرب انتهاء التجربة، وهنا يساعده المربي في فهم ما أنجزه أو ما توصل إليه من خلال التجربة التي مر بها. عندما يستطيع المتعلم التعبير عن نموه، سيتمكن من استيعاب نتائج اختياراته وتجربته، وسيستطيع افتراض تطبيقات مستقبلية لما تعلمه، فيتسع وعيه ويتشكل بالتجربة.

أزعم أننا لا نحتاج لأساليب للتربية فقط، حديثة كانت أم قديمة، إنما نحتاج قبلها للشجاعة؛ شجاعة الإطلاق والحرية؛ شجاعة الاختيار واتخاذ القرارات، كما نحتاج للعلم؛ العلم الحقيقي وليس المعلومات، نحتاج أن ندرك أهمية التعلم وبناء الوعي الحقيقي، وندرك أنها رحلة ستستمر طوال الحياة. فهلا بذلنا الجهد في الحث على التعلم الحقيقي من أجل تربية سوية للأبناء -تربية توسع الحياة في قلوبهم وعقولهم؟ أعدكم أنها ستكون موسعة لقلوبنا وعقولنا نحن أيضاً.

نرمين الكمَّار

نرمين أحمد الكمار حاصلة على بكالوريوس الهندسة المعمارية. أثناء دراستها بكلية الهندسة، وجدت أنه ليس المجال الذي تريد دراسته أو العمل به، مما أعطاها أول استبصار لأن التعليم، خاصة التعليم الأساسي لا يساعد على معرفة ما نريد تحقيقه في حياتنا، ما نستطيع عمله، وما نفتقر إليه و نريد تعلمه. عملت نرمين بمؤسسة علمني لمدة خمس سنوات في تطوير المناهج كما عملت كميسرة، ومشرفة تعليمية، وباحثة، ومديرة لمشروعات تطوير وتصميم مناهج متعددة. تستكمل نرمين الآن مسيرتها في تطوير مناهج التعليم المجتمعي بمدارس من أحياها المجتمعية، وهي في رحلة مستمرة من الدراسة؛ دراسة التربية و البحث من خلال مسارات متعددة، ودورات مختلفة، وورش عمل، وقراءات، ودبلومة في تربية الشخصية، و تخصص في طرق البحث بالعلوم الاجتماعية، وهي مؤمنةً بأن التربية والتعلم هما رحلة الحياة نفسها؛ فالتعليم ليس-في ذاته- هدف ينتهي ، والتعلم، والاكتشاف، والاستكشاف والتطوير لا ينتهوا أبداً.